حسب الله يجيى
يشكل الفن الروائي حضوراً متميزاً في الأدب العراقي, ومع أن السلطة السابقة قد عمدت إلى احتواء هذا الفن وتوظيفه لخدمة أهدافها السياسية, إلا أنه بقي الأكثر إشراقاً في التعبير عن حياة الفرد والجماعة معاً.
ويعد الروائي العراقي المغترب: محمود سعيد واحداً من جيل الخمسينات الذي ما زال يتواصل مع الرواية على الرغم من قلة ما ينشره.
ومنذ روايته (زنقة بن بركة) تمكن أن يشكل مدياته الفنية الواقعية بلغة صافية ومعمار متقن ومضامين إنسانية ناضجة.
وفي روايته الأخيرة (الضالان) يتقدم محمود سعيد برؤية ينوع فيها على إنسانية الإنسان, انطلاقاً من فهمه العميق ومنطلقاته الفكرية اللافتة في تقديم رواية تتعاطف مع بسطاء الناس والوقوف على همومهم, بعيداً عن ماضيهم الذي قد لا يكون لهم علاقة أساسية في تحديده أو الانتماء إليه, وإنما جاء نتيجة لظروف خارجة عن إرادته, وهذا ما نجده في الشخصية المحورية لهذه الرواية التي ظهرت معها شخصية أخرى, حتى رأى الروائي أن يطلق عليهما معاً صفة (الضالان).
لكن الواقع ليس كذلك, فالشابة في الرواية وجدت نفسها في بيئة فاسدة بعد معاناة من الوحدة والتشرد, ثم تحولت إلى سلعة يتاجر الرجال بجسدها دون أن تقوى على التمرد والرفض والانفلات.
كما وجدت الشيخوخة المغتربة نفسها في محنة مواجهة هذه الشابة مصادفة, وتحول العطف والموقف الإنساني إلى عالم من الود والتوافق بين إشكاليتين: إشكالية المرأة التي تسحق إنسانيتها وتضيق بعالم فاسد, وإشكالية رجل متعب يواجه امتحان إرادته الإنسانية ورجولته المنطفئة وانتباهه للمرأة التي تحتاجه مثلما يحتاجها في عالم يسحق الغرباء وتصهره الغربة.
وكانت المرأة لها القدرة على التمييز بين الحب ومهنة الجسد تقول:
(نعم..أحبك, لكن الحب شيء, والمهنة شيء. القلب للحب والجسد للمهنة. لا علاقة للواحد بالآخر, كلاهما يسيران في خطين متوازيين جنباً إلى جنب لكنهما لا يتقاطعان ولا يتعارضان.
وقد لا يكون هذا التقاطع قائماً – كما نعتقد- في حالة الحب الصحيح, لكنه يتقاطع كلياً في حالة ممارسة المهنة التي تتحول إلى آلية ينطفئ بدلاً من اشتعاله كما في الحالة الأولى.. هذا هو الاختلاف الذي تحسه المرأة دون أن تدركه, ولم يعمد الروائي إلى توضيحه مع انه الفعل الأهم في هذه التجربة الإنسانية.
لكن الرجل يوضح من جانبه قائلا:
(لا تعطي جسدك إلا لمن تحبين, الجسد مقدس كالحب, انسي الماضي فكري كامرأة لم تنزلق إلى تلك الحمأة).
ومثل هذا التوجيه يجعلها (تخجل وتنكمش.. وتطلب العفو) ذلك أنها لا تملك شيئاً آخر يمكن أن تفعله وتستجيب له.
وكان الروائي يميز معاني الشرف التي اكتشفها في سجن الحلة عام 1963 حيث كان هناك تمييز بين شرف اللص, والاعتداء على شرف الآخرين, فقد تكون مهنة اللصوصية حاجة معيشية في وقت تكون الثانية حاجة ودية عاطفية, الأمر الذي يتطلب تمييزها في سجن عرف عنه احتضانه للسياسين العراقيين المعارضين لسلطة 1963 الدكتاتورية.. وهو ما جعل الروائي يحددها زماناً ومكاناً بهدف تحديد صورتها العميقة التي كانت سبباً في الغربة وما حل من ضلالات عديدة, كان من بينها تجربة (الضالان).
ويكشف الروائي عن الوضع الاجتماعي المحافظ الذي يبقى على الحرمان طيلة العمر.. على الصورة المتخيلة للمرأة التي لا تكشف عن طقوس جسدها لزوجها وعلى مدى امتداد الحياة الزوجية, العمر كله, انطلاقاً من مفهوم الحرام أو الخجل الذي يحكم على الزوج تحديداً أن يظل يمني نفسه بجسد امرأة جميلة لن يرى تضاريسه طوال حياته, وإن كان على تماس به يومياً!
من هنا يكون اكتشاف الجسد, جزءا من اكتشاف الحياة بكل ما فيها من خفايا وأسرار, وبكل ما تحمله حياة التشرد والغربة والشقاء من آلام ومحن وضغوط.
إن (الضالان) تجربة في امتحان الذات في بعديها النفسي والاجتماعي وفي منطلقاتها على مساحة الغربة التي تعاني من ضغوط الماضي وقلق المستقبل, دون أن تسمح لإرادتها أن تنسحب من الحياة وتنغمس في العدم.. ذلك أن القلق تطفئ ثقله إرادة إنسان يحب بثقة وكبرياء.
الضالان/رواية: محمود سعيد. دار الآداب – بيروت 2003